سورة الحجرات - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [الحجرات: 49/ 1- 5].
يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله لا تتقدموا بقول أو حكم قبل حكم الله ورسوله، فربما أخطأتم، واتقوا الله في كل أموركم، وراقبوه في تجاوز ما لم يأذن به الله تعالى ورسوله، فإن الله سميع لأقوالكم، عليم بأفعالكم ونياتكم. وهذا نهي صريح عن مخالفة القرآن والسنة.
نزلت- كما روى البخاري والترمذي وغيرهما- لما قدم وفد بني تميم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، لو أمّرت الأقرع بن حابس، وقال عمر رضي الله عنه:
يا رسول الله، بل أمّر القعقاع بن معبد، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، وارتفعت أصواتهما، فنزلت الآية في ذلك.
وأكّد الله تعالى الأدب السابق بغض الصوت، فيا أيها المؤمنون، إذا خاطبتم رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم، فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته، لأن ذلك يدل على ترك الاحترام والأدب، وخاطبوه بالسكينة والوقار والصوت الهادئ، خلافا لعادتكم مع بعضكم برفع الصوت، والجهر غير المعتاد بالقول، ولا تقولوا: يا محمد، ويا أحمد، ولكن:
يا نبي الله، أو يا رسول الله، توقيرا له، واحتراما لرسالته، نهاكم الله عن رفع الصوت المزعج، خشية أن يذهب ثواب أعمالكم، أو وقوعكم في الكفر، من حيث لا تشعرون بذلك. أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كانوا يجهرون له بالكلام، ويرفعون أصواتهم، فأنزل الله: {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ} الآية.
ثم رغب القرآن في خفض الصوت، فقال الله تعالى: إن الذين يخفضون أصواتهم أثناء مكالمة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أو في مجالسه، أخلص الله قلوبهم للتقوى، وجعلها أهلا ومحلا لها، أو اختبرها وطهّرها كما يمتحن الذهب بالنار، فيسّرها وهيأها للتقوى، ولهم مغفرة لذنوبهم، وثواب عظيم على تأدبهم بخفض الصوت وسائر الطاعات. نزلت- كما أخرج ابن جرير- في ثابت بن قيس الذي آلى على نفسه ألا يرفع صوته أبدا على صوت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ} تألّى أبو بكر ألا يكلم رسول الله إلا كأخي السرار (أي كصاحب السر) فأنزل الله تعالى في أبي بكر: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ}.
وروى الإمام أحمد عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي الله عنه: إن الذين لا يشتهون المعصية ولا يعملون بها {أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}.
ثم ذمّ الله تعالى الذين ينادون رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم، من خارج حجرات (بيوت) نسائه، كما يفعل أجلاف الأعراب، فقال الله مرشدا لهم إلى ما هو الخير والأفضل: { إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ} أي إن الذين ينادونك أيها النبي من بعيد، من وراء بيوت نسائك، وهم جفاة بني تميم، أكثرهم جهال، لا يعقلون الأصول والآداب الاجتماعية، ولا يقدّرون ما يجب لك من الاحترام والتعظيم. وقوله: {أَكْثَرُهُمْ} يراد به في أكثر أحوالهم لا يعقلون أو أكثرهم لا كلهم لا يعقلون.
أخرج الطبراني وأبو يعلى بسند حسن عن زيد بن أرقم قال: جاء ناس من العرب إلى حجر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فجعلوا ينادون: يا محمد، يا محمد، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ} الآية.
وفي مصحف ابن مسعود: «أكثرهم بنو تميم لا يعقلون».
وليتهم لو صبروا حتى تخرج إليهم كالمعتاد، لكان لهم في ذلك الخير والمصلحة في الدنيا والآخرة، لما فيه من رعاية حسن الأدب مع رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم، ورعاية قدره الشريف، والعمل بما يستحقه من الإعظام والاحترام، والله غفور (كثير المغفرة) لذنوب عباده، رحيم (واسع الرحمة) بهم، لا يؤاخذ مثل هؤلاء، فيما فرض منهم من إساءة الأدب، جهلا وعادة قبيحة، فهم يحتاجون إلى التعليم، وهذا حث على التوبة، وترجية لهم وإعلام بقبول توبة التائب، وغفرانه ورحمته لمن أناب ورجع.
التثبت من نقل الأخبار:
تناقل الأخبار آفة المجتمعات، فقد يكون بعضها إشاعة، أو كذبا، وقد يكون هناك كثير من المبالغة في الخبر وتضخيمه، وغالبا ما يكون نقل الخبر بحاجة ماسة إلى الدقة في النقل، وضبط اللفظ، وفهم المراد، وتأويل المسموع، لذا كان لابد من الكتابة أو التدوين أو التسجيل ليكون الخبر صحيحا أو مطابقا للواقع، وقد يكون الخبر كله ملفقا أو موضوعا لدوافع سياسية أو مناصرة اتجاه معين أو لبذر بذور الفرقة، وتأجيج نار الخلاف بين الناس، الأقارب أو الأباعد، لذا أوجب القرآن التثبت من الأخبار، تحقيقا للمصلحة العامة أو الخاصة، ومنعا من إيقاع الفتنة، وزرع الفرقة، فقال الله تعالى:


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} [الحجرات: 49/ 6- 8].
سبب نزول الآية- فيما أخرجه ابن جرير الطبري وأحمد وغيرهما بسند جيد عن ابن عباس- أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق مصدّقا (جابيا للصدقات) وكان معاديا لهم، فأراد إذايتهم، فرجع من بعض طريقه، وكذب عليهم، وقال للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم: إنهم قد منعوا الصدقة وطردوني وارتدوا، فغضب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وهمّ بغزوهم، ونظر في ذلك، وبعث خالد بن الوليد إليهم، فورد وفدهم منكرين لذلك، فنزلت الآية بهذا السبب.
وهي وإن نزلت خاصة في هؤلاء القوم، فهي عامة إلى يوم القيامة، ما نسخها شيء.
ومعناها: يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، إن أتاكم فاجر، لا يبالي بالكذب، بخبر فيه إضرار بأحد، فتبينوا الحقيقة، وتثبتوا من الأمر، ولا تتعجلوا بالحكم حتى تتبصروا في صحة الخبر، لتظهر الحقيقة، خشية أن تصيبوا قوما بالأذى، وتلحقوا بهم ضررا لا يستحقونه، وأنتم جاهلون حالهم، فتصيروا على ما حكمتم عليهم بالخطإ نادمين على ذلك.
وفي تنكير (فاسق) و(نبأ) دلالة على العموم في الفساق والأنباء، مما يدل على أن شهادة الفاسق لا تقبل، وأن خبر الواحد العدل حجة.
وعليكم أيها المؤمنون تعظيم قائدكم، فاعلموا أن معكم رسول الله، فعظموه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، ولا تقولوا قولا باطلا، ولا تتسرعوا بالحكم على الناس من غير تبيّن حقيقة الخبر، ولو أطاعكم في كثير من الأخبار التي تخبرونه بها باجتهادكم وتقدمكم بين يديه، لأدى ذلك إلى الوقوع في العنت: وهو المشقة والإثم والهلاك.
ولكن الله تعالى أنعم عليكم بنعم كثيرة، فلا تتقدموا في الأمور، واقنعوا بإنعام الله تعالى عليكم، وحبّب، أي قرّب الإيمان إلى بعضكم وحسّنه وخلقه في قلوبكم، وكرّه إليكم الكفر (جحود الخالق وتكذيب الرسل) والفسوق (الخروج عن حدود الدين) والعصيان (المخالفة وعدم الطاعة) أي جعل هذه الثلاثة مكروهة في قلوبكم، بما وصف من العقاب عليها، هؤلاء الذين قبلوا هذه النصائح واستقاموا على طريق الحق ومقتضى الشرع، وأدب الدين، وشكروا الله على ذلك، هم الراشدون المهديون، الذين لم يتورطوا في اتهام غيرهم دون تثبت. وقوله {أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} التفات من الخطاب إلى الغيبة.
وإن تحبيب الإيمان إليكم، وتكريه الأمور الثلاثة المتقدمة تفضل الله بها عليكم تفضلا وإنعاما من لدنه، والله عليم بكل الأمور الحادثة والمستقبلة، حكيم في تدبير شؤون خلقه، وفي أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره. وقوله: {فَضْلًا} مصدر مؤكد بنفسه، لأن ما قبله هو بمعناه، إذ التحبيب والتزيين هو نفس الفضل.
كان قتادة رحمه الله يقول: قد قال الله تعالى لأصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} وأنتم واللّه أسخف رأيا، وأطيش أحلاما، فليتّهم رجل نفسه، ولينتصح كتاب اللّه تبارك وتعالى.
إن في هذا الأدب وهو التثبّت من الأخبار المنقولة، والروايات المروية، فائدة عظيمة للأفراد والجماعات، فكم من خبر مفترى ولّد أحقادا ومنازعات، واتهامات باطلة، فيندم ناقل الخبر لتركه التأمل والتأني، قال عليه الصلاة والسّلام: «التأني من اللّه، والعجلة من الشيطان».
فض المنازعات الداخلية (البغاة)
تقع الصراعات أو المنازعات الداخلية المسلحة عادة في كل زمان ومكان، بسبب بعض الشبهات أو التأويلات، من فئات تستبد بها الأهواء أحيانا، أو الجنوح أحيانا، أو مناصرة لحق يرونه، وظلم يبغون رفعه، وتتكبد الأمة خسارة كبيرة في القضاء على الثورات المسلحة والفتن الداخلية، ولو احتكموا إلى القرآن بمعانيه الدقيقة، لما نشب بينهم شيء من الخلاف، وقد أنزل اللّه تعالى في قرآنه حكما سديدا في هؤلاء في الآيات الآتية:


{وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} [الحجرات: 49/ 9- 10].
سبب نزول هذه الآية- فيما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم- عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه: أنه قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: يا نبي اللّه، لو أتيت عبد اللّه بن أبيّ، فانطلق إليه على حمار، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فبال الحمار، فقال: إليك عني، فو اللّه، لقد آذاني نتن حمارك، فقال عبد اللّه بن رواحة: واللّه، إن بول حماره أطيب ريحا منك، فغضب لعبد اللّه رجل من قومه، وغضب لكل منهما أصحابه، فوقع بينهما حرب بالجريد والأيدي والنعال، فأنزل اللّه فيهم: {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}.
والمعنى: إذا تقاتلت جماعتان من المسلمين، فعلى ولي الأمر الإصلاح بينهما بالنصح والدعوة إلى اللّه والإرشاد، وإزالة الشبه، ورفع أسباب الخلاف. والتعبير ب (إن) للدلالة على ندرة الواقعة، والخطاب لولاة الأمور، ويفيد الوجوب. وهو يدل على أن المعصية، وإن عظمت- لا تخرج من الإيمان.
فإن اعتدت أو تجاوزت إحدى الجماعتين على الأخرى، ولم تتقبل النصيحة، فعلى المسلمين أن يقاتلوا الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى حكم اللّه وترك البغي، ويكون القتال بالسلاح وغيره، يفعل الوسيط ما يحقق المصلحة، وهي الفيئة، فإن تحقق المطلوب سلما بغير سلاح، كان مسرفا في الزيادة، وإن تعين السلاح، فعل حتى الفيئة.
فإن رجعت الفئة الباغية عن بغيها، ورضيت بأمر اللّه وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم اللّه، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم، وتؤدي ما يجب عليها للأخرى، حتى لا يتجدد القتال بينهما مرة أخرى، واعدلوا أيها الوسطاء في الحكم بينهما، إن اللّه يحب العادلين ويجازيهم أحسن الجزاء. وهذا أمر بالعدل في كل الأمور، روى عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما- فيما أخرج ابن أبي حاتم والنسائي- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ، بين يدي الرحمن عز وجل، بما أقسطوا في الدنيا».
ثم أمر اللّه بالإصلاح في كل نزاع، لأن اللّه جعل بين المؤمنين أخوة في الدين، يجمعهم أصل واحد، وهو الإيمان، فيجب الإصلاح بين كل أخوين متنازعين، وقاعدة الإصلاح قائمة على تقوى اللّه، لذا أمر اللّه بعدئذ بالتقوى في هذا الإصلاح وفي كل أمر، بأن يلتزم الجميع بالحق والعدل، والبعد عن الظلم، ورقابة اللّه وخشيته، فإن المتنازعين إخوة في الدين، والإسلام سوّى بين جميع المؤمنين، لعلكم ترحمون أيها المتخاصمون بسبب التقوى: وهي التزام الأوامر، واجتناب النواهي، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} إنما المفيدة للحصر: تفيد أنه لا أخوة إلا بين المؤمنين، لأن الإسلام هو الرباط الجامع بين أتباعه، وهذا يدل على أن أخوة الدين أقوى وأمتن وأخلد من أخوة النسب، كما ذكر القرطبي وغيره.
وليست الفئة الباغية كافرة، قيل لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: أمشركون هم أهل صفّين والجمل؟ قال: لا، من الشرك فرّوا، قيل: أفمنافقون؟ قال: لا، لأن المنافقين لا يذكرون اللّه إلا قليلا. قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.
وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «حكم اللّه تعالى في الفئة الباغية ألا يجهز على جريح، ولا يطلب هارب، ولا يقتل أسير».
ولا ضمان في أثناء القتال بين الفئتين المتحاربتين، فإذا لم يقع قتال، نفّذت الأحكام العادية العامة، فيجب القصاص من القاتل عمدا، وتجب الدية في القتل الخطأ، والكفارة.
إن تحكيم كتاب اللّه والرضا بما فيه، وإفهام المتأولين خطأ تأويلهم هو قاعدة حل المنازعات الداخلية في الإسلام، ولو طبقت هذه القاعدة لما وجدنا اقتتالا قائما بين المسلمين.
الآداب الاجتماعية ووحدة الشعوب في الإنسانية:
الدين رباط جامع بين العقيدة والعبادة، والمعاملة، والأخلاق أو الآداب، وليست الآداب مجرد صفات ترفيه أو كمالية في الإسلام، وإنما هي من صلب الدين، يحكمها مبدأ الحلال والحرام، والثواب والعقاب، والرضا والسخط، خلافا لما يظن بعض الناس خطأ أن الأخلاق صفة كمالية لا تخضع للحساب والعقاب، ومن المعلوم أن تقدم المجتمعات ورقيها إنما يكون بالأخلاق السوية والآداب العالية، لذا كانت سورة الحجرات كلها في الأخلاق والمبادئ الاجتماعية والإنسانية، ومنها هذه الآيات:

1 | 2